يمرّ لبنان بأسوأ أزمة بتاريخه. بينما كانت الأزمة تقرع الأبواب، لم يَغِب الهراء لحظة عن الساحة، في انفصام كامل عن الوقائع الاقتصادية والاجتماعية: الانتقال من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج، التخصص في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، الاعتماد على المستوى التعليمي الرفيع للّبنانيين، انتظار مداخيل النفط الذي سيكتشف في البحر، الخ … إزاء هذا المزيج من الجمل الرنّانة والأوهام التي طالما ساورَتنا، بعيداً عن أي فكر نقدي، لا بد من السؤال: أي مشروع اقتصادي نريد للبنان؟ هذا السؤال ليس تقنياً، بل هو سياسي في الأساس.عرف لبنان أربعة نماذج للاقتصاد في تاريخه الحديث، تختتم باقتصاد قائم على النهب وإعادة التوزيع المقوْنَنَين (1985 حتى الأمس) الذي نشهد إنهيارَه أمامنا اليوم. بالواقع, انهيار الماليّة العامة و النظام المصرفي نتيجة انهيار النظام السياسي اللاقتصادي الممارس منذ نصف الثمانينات و تكرّس في أوالي التسعينات. فأيّ اقتصاد يحتاج له لبنان ليقوى و أيّ نظام سياسيّ يحتاج له هذا الاقتصاد؟الكتاب, اقتصاد و دولة للبنان , يقدّم عدّة مجالات, عدّة طرق لبلد صغير مثل لبنان ليشتغل باسلوب انتاجي. ما يحتاجه لبنان هو قيادة سياسيّة ذات رؤية حكيمة و جريئة, و محرّرة من العاقة المذهبيّة لسنّ السياسيّات المناسبة.الاقتصاد مشكّلٌ من ناس (العمل الحي) أولاً، ومن ثم من مخزونُ الموارد بما فيه رأس المال. الاثنان يحتاجان الى نشاط عام شمولي. لم تكن الأزمة المالية التي تكشفت في 2019 وليدة الصدفة. لا بد من التعرّف بدقة إلى أسباب حدوثهاعلى الأقلّ لتجنّب الوقوع بالافلاس من جديد, و أيضا لإنشاء السبيل للأمام. بعد فحص و تحليل حذران, بعيداً عن الوصفات المحاسبيّة, حين اذن نفهم مواءمة دور إدارة الماليّة العامّة مع حاجات صيانة النظام السياسي. ليسا منفصلان عن بعضهم البعض.بحكم طبيعته، يستهلك النظام الاقتصادي السياسي اللبناني الموارد : رأس المال، وهذا الاستهلاك يمكن تتبّعه من خلال تراكم رأسمال سلبي, ويستهلك ثانيًا البشر، يمكن تتبعه من خلال المخزون المتزايد من المهاجرين اللبنانيين. لوقف استهلاك موارد و شعب لبنان, ينبغي انجاز نظام سياسي اقتصادي جديد.من بالغ الأهمّية بالفترة الانتقاليّة وجود قيادة سيايّة ذات رؤية حكيمة لتغيير اقتصاد لبنان و مجتمعه و ذات جرأة المرانة ببناء نظامٍ سياسي و اقتصادي مستديم. المرانة لازمة بسبب التغييرات في الأوضاع المحلّية (مثل بنية السكّان الاجتماعيّة الاقتصاديّة) و بسبب التغييرات في الأوضاع الاقليميّة (مثل الأمن و الوضع الاقتصادي في سوريا). يصوغ الكتاب افضل الخيارات الاستراتيجيّة بشكل منطقي و واقعي مراجعا عدّة وجهات بغاية الأهمّيّة, لا سيّما خيار العملة المناسبة للمشروع و تأثير الخسائر الماليّة و الهجرة.ربّما أن الجانب الأقوى في الكتاب هو النقاش الغاية الأهمّيّة حول البدائل, بما فيها مسالك الاجراء و الاجراآت المؤسّساتيّة, بما فيها دور المصارف, العملة اللبنانيّة و الضرائب. بالاضافة, يطرح سياسات متينة لقطاعات رئيسيّة في البلاد في خدمات أساسيّة غير قابلة للتبادل (الصحّة, التدريب و التعليم, السكن, الطاقة الكهربائيّة, الاتصالات, المياه, النفايات, النقل المحلّي و الخارجي). يقدّم سبل واضحة و امكانيّات لللّبنانيين ليبنوا اقتصاداً منتجاً و قوياً. لا يبنى اقتصاداً قوياً الا اذا يعامل المواطنين و المقيمين باحترام و ليس كسلع قابلة للتصدير, و بالتالي, من الملزم مجتمع متماسك و قوي. فقط قيادة سياسيّة قويّة و جريئة و حرّة تتمكّن من انشاء هذا المسار, و هذا لن يحصل الا في سياق دولة مدنيّة.